السبت، 2 مارس 2019

القطار




مستوحاة من كارثة القطار في محطة مصر – فبراير 2019

استقل ياسين وزوجته صابرين وطفلهم أحمد القطار من محطة الرمل صباحاً متجهين إلي القاهرة، وذلك بعد زيارة سريعة إلي والدة زوجته صابرين، والتي لم تستغرق سوي يوم واحد، ورغم إلحاح حماة ياسين للمكوث ولو ليوم أخر، إلا أن ظروف عمل ياسين الذي كان يعمل موظفاً صغيراً بإحدى الشركات حالت دون تنفيذ تلك الرغبة، فحتي أحمد ابنه الصغير والذي لم يتجاوز عمره الأربعة أعوام أخذ يترجى والده أيضاً بالبقاء، ولم يكن يستوعب أن ذلك يتم حتي دون رغبة والده، الذي لولا مشغوليته بالعمل لكان أحب إليه البقاء لبضعة أيام وليس ليوم واحد فقط، ورغم أن الزوجة صابرين كانت تعرف جيداً حجم تلك المسؤوليات إلا أن نظراتها إلي زوجها كما لو عبرت عن ذلك ورجته هي أيضاً متمنية في قرارة نفسها أن يفعل أي شيء ويمكثوا ليوم أخر.
وهكذا ورغم تلك التوسلات فقد استقل الثلاثة القطار، ورغم حضورهم قبل موعد مغادرة القطار بنصف ساعة، إلا وأن القطار تأخر عن الإقلاع لثلاثون دقيقة أخري دون سبب معلوم.
-          ياسين
كان ذلك صوت صابرين ذات الثلاثون ربيعاً، والوجه المشرق المبتسم علي الدوام وهي تنادي زوجها.
-          نعم يا صابرين
-          ماذا لو ذهبنا أثناء طريقنا اليوم لنشتري بعض الملابس لأحمد؟
-          رغم ما أشعر به من تعب، إلا أنني أوافق علي ذلك، فأنتِ تطلبين ذلك منذ مدة ولا أستطيع تلبية طلبك لظروف عملي.
أجابها ياسين بذلك ثم أغلق عينيه معرباً عن نيته النوم فتركته صابرين واتجهت ببصرها نحو أحمد قائلة بسرور:
-          العام القادم ستذهب إلى المدرسة، ولن نستطيع أن نذهب إلى جدتك كيفما شئنا مثلما نفعل الأن ... ولكننا قد نستبدل ذلك بإجازة طويلة من وقت إلي أخر.
نظر إليها الطفل وقال متسائلاً:
-          هل سألعب في المدرسة مثلما أفعل الأن في البيت؟
ابتسمت صابرين قائلة:
-          أهذا هو كل ما يهمك؟ ... بل قل إنك ستلعب مع أصحابك وتتعلم معهم أيضاً.
مرت الساعات واستمر الحديث ما بين صابرين وابنها أحمد ومن بعد ذلك ياسين بعد استيقاظه. ولم تتوقف صابرين عن الكلام لحظة واحدة أثناء الرحلة، إلا أن وصول القطار إلى محطته النهائية بالقاهرة أجبرها على التوقف، وما لبث أن توقف القطار حتى ذهب ياسين لإحضار حقيبة السفر، ونزل بعدها الثلاثة من القطار، فتوجهت صابرين بالحديث إلى زوجها قائلة:
-          كم أشتاق إلى أمطار الإسكندرية وأجواءها الشتوية التي تربيت عليها، إن الجو هنا مختلف تماماً.
توقف ياسين للحظة يعدل من حقيبته ثم أجابها قائلاً:
-          الجو هنا معتدل ولكن يعيبه كم التلوث، أما مدينتكم فلربما تحميها الأمطار من كم تلك الانبعاثات.
-          ليس ذلك فقط ... دائماً ما أشعر هناك بروح دائماً مختلفة عن أي مكان أخر.
توقفت صابرين للحظة ثم تابعت:
-          ألن نذهب إلى السينما يوما مثلما وعدتني؟
-          دعيني فقط أرتب أموري ونحدد يوماً للذهاب سوياً.
اقترب الثلاثة من نهاية الرصيف وكان ياسين يسبق زوجته وابنه ببضع خطوات، وما أن وصل إلي نهاية الرصيف حتي سمع صوت قطار يقترب في سرعة علي الرصيف الأخر القريب منهم، وهنا توقفت صابرين ونظرت وراءها كي تكتشف سر تلك الجلبة، ولم تكمل صابرين حركتها، فقد كان اصطدام القاطرة بالرصيف أسرع منها، في تلك اللحظة انفجرت القاطرة محدثة صوت انفجار قوي داخل المحطة وانتشرت ألسنة اللهب بالمكان، أفلتت الحقيبة من يد ياسين رغماً عنه وأندفع هو من شدة الانفجار بضعة أمتار، ولم يسعفه الحظ للهروب من ألسنة اللهب، فتحول جسده كله في لحظة واحدة إلي عمود من النار ... لم يفكر ياسين في شيء في تلك اللحظة سوي الرجوع إلي زوجته وابنه
-          صابرين ... أحمد.
لم يستطع ياسين أن يصمد أكثر من تلك الثانية وهو ينادي على زوجته وابنه، فقد كانت النيران تأكل جسده، فشهق في ألم وذهول .... وتجمع الناس من حوله وحاولوا اسعاف ما استطاعت أيديهم الوصول إليه ... فمنهم من استخدم وعاء من الماء، ومنهم من استخدم معطفه في إطفاء النيران المتقدة في الأشخاص المصابون.
كانت العشوائية هي السمة السائدة على المشهد، وكان الصراخ هو الشيء الوحيد المسموع داخل المحطة، فلم يفرق أحدهم ما بين صرخات ياسين والصرخات المحيطة، ولكنهم استطاعوا اخماد النيران من جسده الذي لم يتحمل وكان ساقطاً على الأرض يبحث بعينيه عن أسرته:
-          صابرين ... أحمد
هكذا صرخ ياسين مرة أخيرة مستجدياً مَن حوله إنقاذ زوجته وابنه ... وان لم يفهم أحد شيئاً من كلماته ... الا أن بعضهم قد عرف أنه لم يكن وحده في تلك الرحلة المشؤومة ... حدث ذلك وبدأت أعين ياسين تتثاقل رويداً رويداً إلى أن فقد وعيه.
-----------------------------------------------------------------------------------
 
-          محكمة
هكذا نادي حاجب المحكمة بصوته الجهوري معلناً دخول هيئة القضاة إلى القاعة، وقد انزوي ياسين متخذاً مقعداً إلي يمين القاعة بالصف الثالث منها، مولياً نظرة هائمة نحو القفص الحديدي الموجود بالجهة الأخرى من القاعة. كان ياسين محط الأنظار، فقد تغيرت ملامحه بعدما كست الحروق جزءاً كبيراً من وجهه ويديه، ورغم أن الكثير من الناس كانوا يحدقون في وجهه، إلا أنه لم يعر أحد انتباهاً وظل شارداً مصوباً نظراته تجاه القفص الحديدي، وظل على هذه الحال حتى قطع هذا الشرود وقوف الجميع كما جرت العادة عند دخول القضاة، فما كان من ياسين إلا أن وقف هو أيضاً في استسلام تام. أشار رئيس القضاة بيديه للحضور فجلس الجميع مرة أخري وانقطعت الضوضاء التي سبقت دخول القضاة، وساد الصمت القاعة إلا من همس قليل بين بعض المتواجدين، فانتظر القاضي برهة حتى سكن الجميع، فأشار للحاجب بيديه كي يعلن عن القضية الأولي
-          قضية حادث القطار والمتهم فيها برعي حمودة برعي بصفته سائق القطار ... نجم فوزي حسن بصفته مشرف الوردية.
هكذا ذكر الحاجب بيانات القضية الأولي، ولم يلبث أن أثبت المتهمون حضورهم من داخل القفص، وبعد تلاوة بيانات القضية جاء الدور كي يتحدث وكيل النيابة الذي استقام في وقفته موجهاً نظره تجاه القضاة قائلاً:
-          سيدي الرئيس ... حضرات المستشارين ... قبل أن أقف أمامكم اليوم سألت الله أن يلهمني القوة والصمود ... رجوته أن أجد من الكلمات ما أستطيع أن أبدأ به مرافعتي اليوم ... فبرغم أن قضيتنا اليوم تقع قانوناً تحت مسمي الإهمال والقتل الخطأ ... وإلا وأنني لا أجد ما قد أستطيع أن أصف به شدة وجرم عمل المتهمين الواقفون أمامكم في قفص الاتهام.
توقف وكيل النيابة للحظات مشيراً بسبابته تجاه القفص الحديدي، ثم أردف قائلا بنبرة عالية حماسية:
-          أي اهمال هذا الذي يقودك – وأنت تعلم أن آلاف الأرواح أمانة بين يديك – أن يقودك لإهلاك كل تلك الأرواح ... أي اهمال هذا؟
نظر وكيل النيابة مرة أخري إلى القفص تجاه المتهمين قائلاً وقد اكتست نبرته الحزن:
-          ألم يفكر أحدكم في أن من بين الركاب أب تنتظره أسرته، أو أم تشتاق لمعانقة ابنها؟
ثم توقف للحظة وأدار وجه في اتجاه ياسين قائلاً:
-لم تفكروا ... لقد قتلتم وشوهتم أشخاص أبرياء لا ذنب لهم سوي أنهم اختاروا أن يعيشوا حياتهم بشكل طبيعي ويتحركوا مثلما يتحرك أي شخص منا.
نظر ياسين إلي وكيل النيابة ولم يدري إلا وبحر من الذكريات في تلك اللحظة يتدفق في رأسه دفعة واحدة.
-          ياسين ... ياسين
كان الصوت أشبه بالحلم ... صوت امرأة لا يستطيع تمييزها بعينيه التي تري الأشكال أشبه بالأشباح ... لم يكن ياسين في تلك اللحظة قادراً علي فتح عينيه
-          هل تستطيع سماعي؟
جاءه صوت المرأة مرة أخري ... كان ياسين في تلك اللحظة راقداً على سرير ويحاول جاهداً أن يتحرك، ولكنه لم يكن ليستطيع من فرط ما هو مُنهك، فقد أجاب بصوت ضعيف:
-          نعم
وضعت المرأة يديها علي عين ياسين اليمني وفتحتها رغماً عنه مسلطة ضوء مصباح علي عينه.
-          أنا دكتورة هبة ... أنا هنا فقط كي أتابع حالتك الصحية، فنحن نفعل ذلك منذ اليوم السابق، منذ وقعت الحادثة.
-          أين أنا؟
أمسكت دكتورة هبة باليد اليسرى لياسين، واضعة فيها "مجسات" جهاز ضغط الدم، وقبل أن تضع السماعات الطبية داخل أذنيها أجابته قائلة:
-          أنت الأن في المستشفى ... ولكن لا تقلق ... لقد عبرنا مرحلة الخطر، سوف تظل معنا فقط لعدة أيام حتى ننتهي من مداواة الحروق في يديك ووجهك وبعدها تستطيع الخروج في سلام.
سألها ياسين بصوت واهن غير مبالي بما قالته:
-          أين زوجتي صابرين وابني أحمد؟
وضعت الطبيبة السماعات في أذنيها وبدأت في قياس ضغط الدم، وما ان انتهت حتى نظرت إليه قائلة:
-          ضغط الدم في مستوياته الطبيعية ... نحمد الله.
توقفت للحظة ثم استطردت قائلة:
-          سأذهب الأن وأرسل إليك زميلنا الطبيب عبد المجيد.
غادرت الطبيبة الغرفة فنظر ياسين إلي سقف الغرفة في صعوبة شارداً فجال ذلك في ذهنه:
-          القطار ... الاصطدام ... النيران ... صابرين ... أحمد ... أين أنتم؟
في تلك اللحظة دخل الغرفة طبيب شاب
-          حمداً لله على سلامتك سيد ياسين.
هكذا تحدث الطبيب فور دخوله الغرفة وعلي وجهه ابتسامه خافته، فنظر إليه ياسين قائلاً:
-          أين زوجتي وابني أيها الطبيب؟
انهارت سريعاً الابتسامة الخافتة من على وجه الطبيب، وظهر بدلاً منها وجهاً متوجماً حزيناً وهو يقول:
-          أنت بالطبع رجلا مؤمن ... وتعرف جيداً أن لكل أجلٍ كتاب... زوجتك وابنك في ذمة الله.
ما أن سمع ياسين ذلك حتى أطلق صرخة عالية ألماً وحزناً ثم اغرورقت عيناه بالدموع.
في تلك اللحظة نظر الجميع في قاعة المحكمة تجاه ياسين الذي – وبدون أن يدري – قد أطلق ذات الصرخة، وعندها ربت أحد الجالسين بجواره على كتفه بعدما رأي الدموع تنهمر من عيونه، فأفاقَ ياسين من ذكرياته المؤلمة ورجع يتابع المحاكمة مرة أخري.
وهنا نظر وكيل النيابة إلى القضاة قائلاً:
-          إني أطلب من عدالتكم توقيع أقصي عقوبة على المتهمين لما اقترفوه في حق الأبرياء.
شرد ياسين مرة أخري في أفكاره وظل متحدثاً إلي نفسه قائلاً:
-          أقصي عقوبة ... هه ... وبماذا يفيدني أقصي عقوبة ... فقد حطموا حياتي وقضوا على كل عزيز لدي في تلك الحياة ... لماذا لا تسلموهم إلي فأقتص منهم بما يتراءى لي ... أليس الجزاء من جنس العمل؟ ... فلنجعلهم يتذوقوا مرارة فقدان الأحباء، فيعيشون ما تبقي من حياتهم علي ذكري بلا أمل ... وبعد ذلك نشوه وجوههم مثلما فعلوا بي ... أليس ذلك هو العدل؟ ... رغم كل ما أكنه لكم من حقد في داخلي، إلا وأن كل ذلك لن يهدئ أبداً من نيراني، فقتلكم وقتل أحباءكم لن يشفي أبداً من غليلي.
لم يكن ياسين أبداً من هذا النوع السيئ، بل كان محبوباً من الجميع وعرف عنه طيبته وخلقه، بيد أن الحادثة كسرت داخله أشياء وأشياء، فحولته شخصاً أخر يضمر الحقد للمجتمع ككل.
عند تلك اللحظة تنبه ياسين إلي القاضي بينما هو ينادي الدفاع لبدأ المرافعة، فتمتم ياسين بصوت خافت:
-          يا لك من خنزير كي تقبل أن تدافع عن هؤلاء الملاعين.
وهنا بدأ المحامي الاعتدال ونظر ناحية القضاة قائلاً:
-          عبد ربه فتحي ... حاضر عن المتهم الأول والثاني.
صمت المحامي برهة ثم استطرد قائلاً:
-          سيدي الرئيس ... حضرات المستشارين ... إن الحادث الأليم الذي أدمي قلوبنا جميعاً لن نرضي أبداً وأن يمر مرور الكرام ... بل ينبغي وأن يحاسب كل مخطئ جزاء ما اقترفه من اهمال ... ونحن هنا بصدد محاكمة شخصين لهما يقعوا حقيقة الأمر في نهاية الترتيب من حيث المسؤولية ... أضع بين أيديكم تقرير مفصل عن إجراءات الأمان المتبعة.
وهنا سلم المحامي عبد ربه ملفاً لرئيس القضاة، ثم أردف قائلاً:
-          يوضح الملف بين أيديكم مدي الإهمال الشديد من جهة الهيئة، سواء في مكابح القضبان أو نظام الغلق الأوتوماتيكي وتفريغ الهواء في حالات السرعة الزائدة ... وإنني لا أنفي جانب الإهمال من ناحية المتهمين، بينما أوجه نظر عدالتكم إلى إهمال أكثر جسامة ... إن أردنا القول فدعنا نؤكد أولاً أن البشر خطاؤون بطبيعتهم ... ومن منا لا يخطئ؟ ... ولكن تحديداً وفي حالتنا هذه فإننا نعم نتوقع الخطأ ولكننا نأخذ له من تدابير واحتياطات للأمان ما يبطل هذا الخطأ ... خاصة ونحن نعرف أن أي خطأ سيكلف حياة أبرياء ... وإننا لنؤكد ومن خلال تلك التقارير أن كل التدابير الاحتياطية لم تكن موجودة في الأصل نتيجة إهمال بعدم صيانتها وتشغيلها علي الشكل الأمثل ... وهو ما يثبت أيضاً بأن الخطأ لا يقع منفرداً علي برعي حمودة و نجم فوزي.
قاطعه وكيل النيابة في تلك اللحظة بنبرة عصبية قائلاً:
-          إنني أعترض ... أنت تقلل من حجم ما اقترفه المتهمون من كارثة.
رد المحامي عبد ربه بذات نبرة وكيل النيابة قائلاً:
-          بل أضع المجتمع كله تجاه مسؤولياته ... إن أردنا أن نتحدث عن سبب موت الناس في بلادنا كل يوم بلا أي سبب، فسوف ندرك أننا أمام إهمال جسيم من كافة الأطراف، ودعني أعطي لك مثالاً فجاً وقحاً نقترفه في حق أنفسنا.
صمت المحامي لبرهة موجهاً حديثه إلى القضاة قائلاً:
-          هل نعرف كم شخص يموت كل يوم نتيجة حوادث الطرق؟ ... لن أعطي رقماً ... فأنتم أدري بحجم الفاجعة، ولكن لماذا؟ ... لماذا أركب مثلاً سيارة أجرة ذاهباً لعملي وأجد قائدها متعاطياً، فيعرض حياتي وحياة من في السيارة ... بل والسيارات المحيطة لكل هذا الخطر؟ من سمح لهذا الشخص بالقيادة؟ من سمح له بالاستمرار في القيادة؟ ماذا فعلنا كي نبتر هذا النموذج الحقير من حياتنا؟
صمت المحامي مرة أخري لثوان ثم أكمل بشيء من الحزن:
-          لا شيء ... هم يقتلون أبناءنا كل يوم ولا أحد يمنعهم.
قاطعه وكيل النيابة محتداً:
-          أنت تتحدث خارج سياق القضية ... ان سائق القطار لم يكتفي بإهماله بل برر فعلته بكل هدوء بأنه أخطأ مثلما يخطئ الجميع ... ويري أن مجرد اعتذاره كاف ... ولا يكترث حتى لكل من مات نتيجة فعلته.
أجاب المحامي قالاً:
-          نعم ... هذا هو النموذج الذي خلقناه ...فأنا لا أنكر ... فلقد أصبحنا نقدس ثقافة الموت ولم تعد الحياة بذات أهمية لقطاع كبير منا.
استوقفه رئيس القضاة قائلاً:
-          لقد خرجت كثيراً عن مضمون القضية.
-          لست كذلك سيدي الرئيس ... فنحن مجتمع يمارس الإهمال سعيداً ... ولا يستيقظ إلا وأبناءه يشيعون إلى قبورهم.
نظر ياسين إلي المحامي وتفكر في تلك اللحظة في نفسه
-          ليتهم حتى اهتموا بأن يتحرك القطار في موعده ... ان كنا وصلنا في موعدنا لما فقدت زوجتي وابني.
وهنا قطع حبل أفكاره رئيس المحكمة وهو يتحدث لمحامي الدفاع قائلاً:
-          هل تريد إضافة شيء أخر؟
-          شكراً سيدي الرئيس.
دق رئيس المحكمة بالمطرقة مرة واحدة وهو يقول.
-          الحكم بعد المداولة.
وقف ياسين فتلاقت نظراته مع نظرات محامي الدفاع عبد ربه دون أن ينبس أحددهم ببنت شفه، ثم غادر ياسين القاعة يحمل أحزانه وهمومه وذكرياته، وجلس المحامي في مكانه منتظراً إعلان الحكم.
تمت
بيتر الياس
2 مارس 2019

الجمعة، 15 فبراير 2019

بيسه


أعرفه من وقع خطواته ... يقترب في هدوء بصوت أقدامه المميزة
تك تك ... تك تك
لا يفتح الباب فقط، بل يفتح قلبي علي سعادة لا وصف لها.
ما أن أراه حتي أركض سريعاً إليه متهللة ... يضمني إليه في حنان ويقبلني، ثم يضع طبق الطعام أمامي ويتحدث إلي.
بيسة ... هذا هو الاسم الذي أطلقه عليَّ صديقي، أنتظره حتى ينطقه فألبي النداء، ما أن نجلس سوياً أجده لا ينقطع عن الحديث إلى ... علَّني لا أفهم شيئاً من كلامه، ولكن يكفيني أن أنظر وجهه حينما يتحدث.
لست غبية بالتأكيد، ولكنني لست مثلكم، فأنتم تمشون على إثنين ... تأكلون بإثنين، أما أنا فأمشي على أربع ولا أحتاج شيئاً سوي فمي كي أكل وأشرب، لا يوجد لديكم هذا الكم من الأبيض - اللون الوحيد الذي أعرفه - على أجسادكم مثلما أنا، لدي أذنان أطول من أذانكم، وبالطبع فأنتم تفوقنني طولاً فأنا أصل إلى منتصفكم بالكاد.
أنتم تتحدثون لغة لا أعرفها، بينما أتحدث أنا لغة لا تعرفونها. منذ ولدت وجدت نفسي في تلك الغرفة، لا أعرف شيئاً عن العالم سواها، فهي بالنسبة لي كل حياتي ... لن أطيل عليكم فليست الغرفة سوي مكان صغير بأربعة جدران، على يساري أجد باب وعلى يميني الحائط يتوسطه نافذة صغيرة أنظر منها إلي السماء من حين لأخر وأتنسم العليل كلما أُتيح لي ذلك، أما عن الباب فهو مغلق دائماً يُفتح فقط حينما يحضر أصدقائي، في منتصف الغرفة تجد كرسياً صغيراً وضعه صديقي كي يجلس عليه كلما حضر ... ألوان الغرفة ... إممممم ... لا أدري فأنا لم أعرف الألوان بعد.
قد تظنون أنني سجينة في هذا المكان، ولكنني في الحقيقة لست كذلك، فإن حمزة صديقي ...
نعم نسيت أن أقول لكم ... فهذا الشخص الذي أتحدث عنه اسمه حمزة، دائماً ما أسمع أطفاله وزوجته ينادونه بهذا الاسم .... يا إلهي، كم أتمنى أن أنطق اسمه مرة واحدة مثلما تستطيعون أنتم أن تنطقوه، ولكنني لا أستطيع.
لنرجع مرة أخري إلى موضوعنا الأهم، لما لا أعتبر نفسي سجينة الغرفة؟
الأمر غاية في البساطة، فلدي من الأحباء ما يجعلني ممتنة ... في الصباح وعند شروق الشمس تحضر الزوجة ... يدعوها حمزة باسم فوزية أما الأولاد فيطلقون عليها اسم ماما، فهي أقل قامة من حمزة لها شعر طويل، أحبها كثيراً مثلما تحبني. هذا هو كل ما أستطيع وصفه.
تدخل غرفتي فتقوم بتنظيف الغرفة من الفوضى التي أحدثتها، تحضر إليَّ الطعام والشراب في أطباق محل الأطباق القديمة، أكل طعامي وأنتظر حتي يدخل الأولاد، حيث يحيطون بي بعدها ... أطولهم قامة يدعونه صابر والمتوسط فرج والقصير بينهم ينادونه باسم كوكو، يحضر الثلاثة كل صباح إلي غرفتي ونلعب سوياً، نركض ونركض ثم نركض ... نستمر علي هذا الحال حتي ينهكنا الجري، نلهث، ولكننا لا نتوقف ... قد يمر أحدهم من فوق رأسي ... وقد نجري وراء بعضنا البعض، وفي بعض الأحيان يحضرون الكرة، يرميها صابر في اتجاه كوكو أو فرج فأحاول أنا أن أبعدها، قد أنجح مرة وقد أفشل في الأخرى، وإن نجحت فلا أفعل شيئاً إلا تحريك الكرة برأسي بصعوبة، فيلتقطها مني أحدهم ونعيد الكَرَّة مرة تلو الأخرى، وهكذا نستمر في المرح طويلاً إلي أن تحضر فوزية.
هنا ينتهي وقت اللعب مع الأطفال الثلاثة، فما أن تدخل فوزية إلا وتأمُر الأطفال بالخروج، وهنا تنظر إلى مبتسمة ... تربت على رأسي في حنو ... تراقب مقدار الطعام والماء الموضوع أمامي وتزيده إن نقص ... وللمرة الثانية تقوم بتنظيف المكان، فيصبح المكان رائعاً دائماً.
في بعض الأيام أجدها تقوم بغسلي بماء دافئ، كم يجعلني ذلك أشعر بالانتعاش. أليس ذلك رائعاً أن تجد أحدهم يقوم برعايتك؟! نعم لهو شيء عظيم، فهي تقوم بذلك بلا ضجر، وما أن تنتهي من ذلك حتى تغادر الغرفة، وأظل وحيدة لبعض الوقت، أستغل ذلك في الأكل أو النوم والاسترخاء، وبعدها أنتظر حمزة ... يمر الوقت بطيئاً في الانتظار ولكنه لم يخلف موعداً يوماً ... فها أنا أبدأ الفترة الأخيرة من نشاطي اليومي، الفترة المحببة.
حمزة هو الشخص الذي يفيض حناناً تجاهي أكثر من جميعهم، يجلس معي طويلا كل يوم، فكما أخبرتكم سابقاً فهو يدخل غرفتي سعيداً، أركض إليه فيقوم بضمي إليه ويقوم بتقبيل رأسي ومن ثم يقوم باستكمال ما تفعله فوزية فهو يداعبني ويقوم بإضافة الطعام والشراب لي، يجلس أمامي يراقبني وفي أوقات أخري أذهب إليه وأضع رأسي على قدميه، أحب ذلك فهو يقوم بالربت على ظهري، فأستغرق مسترخية ويقوم هو بالحديث إليَّ طويلاً، كل ما أفهمه هو مدي محبته لي، يكفيني فقط أن أنظر إلى وجهه فأعرف ذلك.
أفهمتم الأن لماذا لا أظن نفسي حبيسة؟ أن أكون مع من أحبهم في مكان وإن كان غرفة صغيرة، لهو أفضل لديَّ من أن أُطلق حرة في كل العالم بلا أحباء.
هكذا يمر يومي وينتهي فأذهب بعدها لأنام، لا أمِل من ذلك وإن تكرر كل يوم.
ها يبدأ يوماً جديداً، تدخل فوزية وتكرر ما تقوم به كل صباح، يدخل بعدها الأولاد ونلعب سوياً وينتهي وقت اللعب سريعاً كما لو لم نلعب، وتحضر فوزية مرة أخري ويخرج الأولاد وتنظف الغرفة.
وأظل أنتظر حمزة
تك تك ... تك تك
ها هو ذا قد وصل أخيراً، ما أن فتح الباب حتى ركضت إليه، ولكنني توقفت فجأة قبل أن أصل إليه، حمزة لم يكن كما أعرفه فلديه وجه مختلف هذه المرة، أين ابتسامتك؟ بل وأيضاً أين طعامي؟  ... هل نسيته؟
أه لقد أحضرت شيئاً أخر معك ربما هو شيئاً جديداً لي، تمسكه من طرفه الأول ويتلألأ بقيته مع ضوء الغرفة، وله طرف أخر مدبب في نهايته.
ركضت إليه قاطعة المسافة المتبقية، وانتظرت ربما يعطيني هديتي ولكنه لم يفعل ... وبدلاً عن ذلك فعل ما يفعله كل يوم، فقد ضمني إليه بقوة وقبلني ... ربت على رأسي ومشينا سوياً بضعة خطوات إلى أن وصلنا إلى مقعده الموجود بمنتصف الغرفة، جلس كعادته وأخذ ينظر إليَّ طويلا، ربما هي المرة الأولي التي أراه ينظر إليَّ بهذا الشكل، كما لو أنه يخفي شيئاً ... ببطء ذهبت إليه ووضعت رأسي على قدميه بينما جسدي يتمدد أمامه، ألن تعطيني ما قد أحضرته لي؟ فمازال في يدك ولم تتركه لحظة واحدة منذ دخولك.
ربما تريدنا أولاً أنا نمضي وقتاً أطول معاً، ربما ترديني أن أنام ... حسناً ... ها أنا أستسلم، فالشعور بالاسترخاء لهو من أفضل الأشياء المحببة إليَّ.
لماذا تضغط رأسي بكل تلك القوة الأن؟ إنك تؤلمني.
أشعر كما لو أن شيئاً ما قد انغرس في رقبتي ... أااااه إنه لشعور مؤلم ... دع رأسي وشأنها يا حمزة فأنا لا أشعر بأنني علي خير حال، لماذا ما تزال تمسك برأسي بتلك القوة؟
أااااااه ... لم أختبر طيلة حياتي كم هذا الألم مثلما أشعر به الأن، فرأسي تثقل وينغرس شيئاً فيها أكثر وأكثر، جسدي ينتفض، وأشعر بالماء الدافئ يحيط بي من كل مكان، لربما أفرطت في اللعب اليوم، فأنا لا أستطيع الحركة الأن ... أشعر بأنني أختنق ... وينبغي على أن أستريح، ربما على أن أنام.
ها أنا أستسلم ... ها أنا أذهب بعيداً ... رويداً ... رويداً.
حمزة .... لا أريد أن أنام قبل أن تقبلني مرة أخيرة ... لا أريد أنا أنام قبل أن أسمعك تنادي اسمي.
بيسة
بيتر الياس
15 فبراير 2019