لا نعرف أبداً ما تخبئه لنا الأقدار ... نتحرك كل يوم ولا ندري ما قد يحدث
وما سوف نقابله، فبرغم أنني بدأت يومي المعتاد للذهاب إلي عملي، نفس موعد إستيقاظي
... نفس التحضيرات ...... نفس المسار المعتاد لذهابي لعملي لم يتغير ... الروتين
لا يتغير، بينما تغيرت فقط بعض المكونات والأحداث ... فمثلا، فقد تناولت اليوم الجبن
والطماطم قبل خروجي، بينما لم أكل شيئاً بالأمس ... وقبلها فقد ذهبت مبكراً لعربة
الفول الموجودة علي أول الشارع الذي أسكن فيه، بينما كانت وسيلة المواصلات التي
أستقلها كل يوم إلي عملي واحدة ... الميكروباص ... لا شيء سواه ... حتي أنني وبحكم
حبي للجلوس بجانب السائق، فقد قمت بالتعرف علي بعضهم، وتوطدت تلك المعرفة بتكرار
الركوب يومياً مع هؤلاء السائقين.
في ذلك اليوم تعرف علي أحدهم بعد ذهابي إلي "الموقف" وبينما أركب
الميكروباص، نادي الرجل من بعيد علي صديقه سائق الميكروباص قائلاً:
-
عم عبده ... خلي بالك م البشمهندس ... ده
حبيبنا الغالي.
رد السائق بصوت خشن قائلاً:
-
عيني يا موحا.
كان السائق في تلك اللحظة يقف بجابي ناحية الشباك الأيمن، ابتسم عم عبده في
وجهي فظهرت أسنانه الصفراء تزين وجهاً لا تستطيع أبداً تحديد عمره، ذو عيني
غائرتين يبدو عليهما التعب والإرهاق، وبعض العلامات علي وجهه نتيجة بعض الإصابات
التي تركت بعض الندبات والخطوط الطولية والعرضية، تحدث إلي قائلاً:
-
مرحب يا بيه ... شكلك زبون مستديم هنا.
أجبته بالإيجاب، صعد السائق بعدها إلي كرسي القيادة بعد اكتمال العدد، وفي
أقل من ثانية كانت المحركات دائرة، وعكس قوانين الفيزياء التي أعرفها والتي تقول
أن سرعة بدء الحركة يجب أن تبدأ من الصفر، فقد خيل إلي أن الرجل بدأ القيادة من
سرعة 100 كم، متجاهلاً المارة والسيارات الأخرى، ربما معتقداً أنهم خيالات لا
أجسام ... وذلك قبل أن يصيح بصوت جهوري.
-
الأجرة يا حضرات
نعم اعتدت هذا الأمر في بعض الأيام من بعض السائقين ... ولكنني كنت أحاول
أن أقنع نفسي كل يوم أن الأمر يوماً ما قد ينصلح، ونتبع القواعد السليمة في
التحرك.
كانت المسافة إلي عملي تقترب من الساعة يومياً، وكنت الأقرب دائماً إلي
السائقين، ما شجعهم علي تمضية الوقت بالحديث إلي، وكان ذلك هو الحال مع عم عبده،
الذي بادرني قائلاً:
-
شوفت يا بيه ... قبضوا ع البت اللي بتتصور
تساءلت عمن تكون تلك الفتاة التي يتحدث عنها، فأسهب عم عبده في وصف فتاة
عادية قام أحد المصورين بتصويرها في أحد الأماكن ... في كامل ملابسها ... في كامل
أناقتها ... في كامل ابتسامتها.
نعم أعرف القصة، ولكنني تعجبت من خبر إلقاء القبض عليها، وهنا تدخل عم عبده
للتوضيح قائلاً:
-
لأ يا بيه ... ده مش أي بت ... ديه فرسة يا
باشا ... انته تبصيلها من هنا ومتقدرش تمسك نفسك من هنا.
ربما لم تعجبهم ابتسامتها ... من يدري، وهنا كان عم عبده يسير منطلقاً
بأقصي سرعة قد تصل إليها سيارته، مراوغاً السيارات يمنة ويسرة، بدأ الاضطراب يسري
في عروقي نتيجة هذا الجنون، ولكنني لم أنبس بكلمة، نظر إلي عم عبده متجاهلاً
الطريق ثم أكمل حديثه:
-
الصور ديه يا بيه عشان تتفرج عليها صح، لازم
تكون عامل دماغ.
وضعت يدي اليسري علي وجهي وابتسمت في سخرية أثناء تحريك رأسي للأسفل، فأكمل
عم عبده:
-
اومال ايه ... حته عنب كده ع الشيشة واتفرج
بمزاج رايق.
سألته هل يتعاطي المخدرات، فأجابني بأن الحشيش ليس مخدر، بل هو نوع من النبات
يقوم بتعلية المزاج ... لم أعلق ... ولكنني عدت بعدها بثانية وسألته ... وهل قام بهذا
المزاج قبل نزوله إلي العمل؟ وهنا ظهرت الميزة الأولي لعم عبده ... الصراحة ...
ظهرت جلية حينما أجاب بصوته الخشن قائلاً:
-
يا باشا أنا مقدرش أنزل م البيت من غير ما
أعدل مزاجي ... أومال ايه.
ثم بدأ عم عبده مرة أخري في ممارسه هوايته وأخذ "الغرزة" تلو
"الغرزة" في الطريق ... مستمتعاً بـ "مرازاة" الناس في الطريق
السريع من حوله، وهنا ينبغي أن أتحدث عن ميزة أخري من ميزات عم عبده ... الابتسامة
والضحكة العالية التي لم تفارق وجهه كلما قام بالعبور من ثقب ابره، مجبراً أحد
السائقين من حوله علي ضغط الفرامل بأقصى قوة لتفادي الاصطدام به، كانت حالتي في
ذلك الوقت مزرية فقد وصلت لمرحلة ابعاد نظري عن الطريق ... هباءاً حاولت ...
واستكمل عم عبده حديثه إلي:
-
ملكش في الكيف ده يا بيه ولا ايه؟
لم أستطع الجواب، واكتفيت بهز رأسي نفياً، والتي كانت كافية لعم عبده
الملتفت إلي بكلتا عينيه.
وهنا تجدر الإشارة إلي الميزة الثالثة في عم عبده ... فهو ينظر إلي غير
منتبه للطريق، ولكنه وبنظرة واحدة في الطريق يستطيع تخيل ورصد سرعات الأخرين من
حوله، وتقدير السرعة والمسافة المطلوبة، لم يكن يحتاج إلي عينيه لرؤية الطريق،
يكفيه الحدس ويستطيع القيادة مغمض العينين ... ربما اعتمد علي مساعدة الأخرين من
حوله في بعض الأوقات ... ربما اعتمد علي خوف بعضهم أيضاً ... لا أدري.
توقف الطريق فجأة علي الطريق السريع، فنفخ عم عبده في عصبية قائلا:
-
يا ستار ... لجنة ع الصبح.
تحركت السيارات بحركة بطيئة إلي أن وصلنا مكان متقدم، كانت أمامنا سيارة
واحدة ملاكي، تفحص الشرطي أوراق سائقها، ثم نادي بصوت عالي علي أحد الضباط قائلاً:
-
يركن علي جنب ... الرخصة خلصانة.
عبثاً حاول سائق الملاكي توضيح الأمر ... ولكن الضابط أمره بالوقوف جانباً،
وهنا تحركت سيارتنا ناحية الضابط ... فسلم عم عبده رخصة القيادة ورخصة السيارة إلي
الضابط ... وعلي وجهه نفس الإبتسامة ... نفس الأسنان الصفراء ... وذات الوجه المليء
بالعلامات ... تحدث إلي الضابط قائلاُ:
-
كله سليم يا باشا ... حتي الحزام لابسينه أهو.
سلم الضابط الأوراق إلي عم عبده وأمره بالتحرك ... ربما جاء الوقت كي أتحدث
أنا أيضاً في صراحة ... فقط إلي نفسي ... فأنا لا أستطيع التحدث بتلك الصراحة مع
أحدهم ... ربما يظنني مجنوناً ... من يدري.
تساءلت – بيني وبين نفسي - أيكون ذلك طبيعياً؟ أن يؤخذ المواطن ويترك
المدمن؟ ربما لم نخترع بعد الأداة المناسبة لكشف المجرم الحقيقي ... نستخدم
قانوناً مكتوباً لإدانة بعض الناس الذين يبدون "ظاهرياً" مخالفين
للقانون ... بينما المخالفون الحق خارج الأسوار ... هذا هو قانون العالم.
كعادة عم عبده انطلق بالسرعة المائة ... وبينما كنت غارقاً في أفكاري ...
نظر إلي عم عبده قائلاً:
-
مالك يا بيه سرحت في ايه؟
أجبته بأن لا شيء ... في تلك اللحظة كاد عم عبده أن يدهس احدي السيارات
أمامه، لم أستطع منع نفسي وأنا أقول:
-
حاسب ... حاسب.
استطاع عم عبده السيطرة علي السيارة في اللحظة المناسبة، وبابتسامته
المعهودة قال:
-
قلبك خفيف قوي يا بيه ... متخفش.
لم أجب بشئ بينما استمر عم عبده في جنونه، متخطياً السيارات ... مستخدما الكلاكس
كوسيلة تهديد لمن لا يفسح له الطريق ... وهكذا حدث أيضاً مع تلك السيارة الملاكي
ذات اللون النبيتي ... التي ظهر قائدها وبجانبه زوجته وفي المقعد الخلفي ظهرت فتاة
لم تتعدي الستة أعوام ... ورغم أن الملاكي كانت تسير ناحية اليسار بمحاذاة الجزيرة
الوسطي للطريق ... إلا أن عم عبده كان مصراً علي تخطيها بأي وسيلة، كما لو كان
هنالك ثأراً قديما ... وهكذا استمر عم عبده في الضغط علي الكلاكس ... مسبباً هلعا
لقائد الملاكي "الغلبان" الذي لم يعرف ماذا يمكنه أن يفعل لهذا المجذوب الذي
يسير خلفه ... يأس عم عبده من تخطيه بتلك الطريقة، فبدأ في مناورة أخري ... وهي أن
"يكسر يميناً" بكامل سرعته –متجاهلا بالطبع القادم من الخلف- وربما أيضاً
متجاهلاً أيضاً السيارة التي تسير في نفس الحارة المرورية جانبه ... من يدري.
وهنا ضغط علي دواسة البنزين إلي أن أصبح في محاذاة الملاكي النبيتي علي
يساره ... ورغم عدم وجود مسافة كافية لمروره ... إلا أنه "كسر" مرة أخري
ناحية اليسار تجاه السيارة النبيتي ... إلي أن أصبحت حافة سيارته الأيسر ملامساً
لحافة الملاكي النبيتي الأيمن ... ارتبك سائق الملاكي ... ولكن ذلك لم يمنع عم
عبده من اكمال عملية "كسر " الميكروباص ناحية اليسار بكامل أبعاده.
حاول قائد السيارة الملاكي النبيتي تفادي ذلك ... وانحرف بالسيارة يساراً
نحو الجزية الوسطي دون أن يعي ذلك ... ولكنه لم يستطع التحكم في السيارة ...
فإرتطمت العجلة اليسري بالرصيف ولسوء الحظ كان هنالك حاجز أسمنتي متدرج ... ارتطمت
السيارة من خلفنا بالرصيف والحاجز الأسمنتي ... فإنقلبت زاحفة علي سقفها لمسافة
بعيدة ... صرخ الجميع بالميكروباص في تلك
اللحظة ... ونظرت في ذهول إلي السفاح الجالس بجانبي ... توقف عم عبده أخيراً بعد
ذلك الإصطدام ... نظر إلي ... وفجأة انفجر ضاحكاً وهو يقول:
-
شفت الحمار وهو بيتقلب ... مبيعرفش يوقفها
... بيسوق ليه؟
صمت برهة ثم أكمل قائلاً:
-
تعمل حسابي أقدرك ... تهزر معايا أعورك
نظرت إلي السفاح نظرة اشمئزاز ... لم أعلق ... فتحت الباب ونزلت متوجهاً
إلي السيارة خلفي ... بينما شعب الشعب المؤمن ... شعب الميكروباص المختار ... لم يتحرك أحد ... من يدري ... فالجميع وقته ثمين ... كما أنا ضياع يوم بالخصم من المرتب سيكون بمثابة الطامة الكبري لكل واحد منهم.
عل كل حال وبعد نزولي من الميكروباص نظرت ناحية الملاكي النبيتي
المقلوبة والتي اختلط لونها بلون دماء ضحاياها ... ومن خلفي زمجرت محركات
الميكروباص مندفعة بأقصي سرعتها ... حاولت أن أفعل ما أستطيع لمساعدة الضحايا ...
ندت دمعة من عيني ... نعم لا نستطيع أن نتحكم في أقدارنا ... ولكننا بالطبع نستطيع
أن نتحكم في ضمائرنا.
بيتر الياس
3 ديسمبر 2020