تـويـــا ابنة الإله
بقلم بيتر الياس
هذه الرواية مستوحاة من أسطورة الأخوين أنوب (أنوبيس) وباتا، التي تعود إلى الأسرة التاسعة عشر من العصر المصري القديم، وتنسب إلى عصر مرنبتاح.
أثرت تغيير بعض أحداثها وكذلك بعض الأسماء الرئيسية في الأسطورة. وذلك تقديراً مني لدور المرأة في حياة المجتمعات، فهي الأم الحنون والأخت المحبة والزوجة التي ترافق زوجها في السراء والضراء ... كما أنها أصبحت الآن العائل الأول لكثير من العائلات في زمننا الحالي.
كما أضفت بعض الأحداث غير الموجودة في الأسطورة الأساسية للربط ما بين الأحداث وبعضها البعض، واضافة بعض التفسيرات لبعض الأمور بها.
الفصل 1
كان رع قد أشرق وأضاء كافة أنحاء معبده الكائن في الجهة الشمالية لإحدي المدن المصرية القديمة، وذلك حينما جاء الأخوين "أنوب" الأخ الأكبر، والصغير "باتا".
تقدم الأخوين إلى داخل المعبد مقدمين قرابينهم إلى الإله رع ... الذي يشرق نوره عليهم كل يوم.
1 بدأ الأخوين في قراءة أنشودة لإلههم المحبوب
سلام لك يا رع رب الصدق
الذي أمر فوحدت الألهة
يا أتوم الذي خلق الناس
والذي حدد صورهم
والذي ميز لون كل جنس عن الأخر
والذي يسمع دعوة المأسور
والذي قلبه رحيم عندما يدعوه الناس
والذي يخلص الضعيف من المستكبر
والذي يبعد الضعيف من القوي
رب المعرفة الذي في فمه الأمر السائد
رب الملاحة عظيم الحب
والذي يحيا البشر بمجيئه
استكمل الأخوين صلاتهم إلى الإله رع في خشوع ... فقد علمهم والدهم قبل وفاته إلتماس البركة من الإله رع، وعدم التأخر في تقديم القرابين إليه، حتي يساعدهم في زراعة أرضهم، واكثار محصولهم وحمايتهم من أي خطر قد يحدق بهم.
استمر الأخوين في اتباع وصية والدهم واستمرت حياتهم تحت رعاية رع ... فقد أعطي الإله رع الأخر الأكبر الحكمة في تدبر أمور حياته ورعايته لأخيه الصغير، فقد تركتهم أمهم وهم في سن صغيرة للغاية، ولم يتزوج والدهم مرة أخري، ولكنه رحل هو الأخر ولم يزل "باتا" في سن صغيرة.
كان "أنوب" يعرف متي ينبغي زراعة المحاصيل، وبأي طريقة ينبغي بذر البذور، وتنظيم مواعيد الري والكمية المناسبة، كان العقل المفكر لكل ذلك.
كما أعطي الإله رع الأخ الأصغر "باتا" قوة بدنية هائلة، وطاقة لا تنفد، وقوة تحمل منها استطاع زراعة أرضهم بيديه ... ليس ذلك فقط، بل أنعم عليه الإله رع أيضاً بمعرفة لغة الحيوانات والطيور، فكان يستطيع فهمهم والتحدث إليهم أيضاً.
لم ينس "أنوب" الأخ الأكبر كذلك وصية والده والتي أوصاها له حينما شعر أن أجله قد حان.
"يا إبني أنوب ... إعلم أنك ستصبح قريبا كالأب لأخيك باتا فعامله كإبنك ... هو تحت رعايتك ... إطعمه من طعامك وألبسه من ثيابك وأسكنه معك ولا تكلفه عملاً شاقاً ولا تكن قاسياً عليه ... واعلم أنك سوف تسمع وشاية ضده من أقرب ما لك، فلا تصدقها لأنه سيعيش مخلصاً لك وسيكون اخاك الوفي وخادمك الأمين المطيع ... تذكر ذلك ولا تنسه أبداً".
حافظ "أنوب" علي ذلك ... فقد فضل أخيه "باتا" علي نفسه، لم يظلمه ولم ينقصه شيئاً أبداً، وكانت محبته لأخيه كمحبته لنفسه.
أما "باتا" فقد كان برغم قوته، ذكياً نشيطاً ومحباً لأخيه كنفسه ... استغل قوته في النهوض كل صباح لحرث الأرض وبذر البذور وري الأرض في الموعد الذي علمه إياه أخيه "أنوب" ... وحينما يحين وقت الحصاد، كان يجمع الثمار ويقوم بتخزين ما يلزم، وان وجد وقتاً خالياً نسج من الملابس ما يكفيه وأخيه "أنوب" ... وفي المساء كان يحلب اللبن ويعد الطعام له ولأخيه الأكبر، ويضع ما بقي من اللبن في أنية نظيفة لصنع الزبد والجبن ... ولم يكن يكتفي بذلك بل كان يحضر الحطب ويشعل النيران لتدفئة المنزل في الشتاء ... ليجلس بعد ذلك الأخوين يتسامران حتي يغلبهما النوم.
وكما حافظ الأخوين علي تقديم القرابين والصلاة للإله رع، حافظ كلاهما أيضاً علي رعاية أرضهم التي تركها لهم والدهم كأرض خصبة، فلم يهملوها واهتموا بها لأنها مصدر حياتهم، كذلك ضاعفوا ماشيتهم وأغنامهم وصارت أكثر من ذي قبل، ولحسن حظهم في ذلك الوقت فقد كان الملك رؤوفاً علي رعيته، لا يأخذ منهم أكثر مما يجب كضرائب، ولا يثقل عليهم مثلما فعل بعض أقرانه، فزاد خزينهم ... واشتروا البضائع الأجنبية والجواهر من بعض المسافرين العابرين مقابل الفائض لديهم من المؤن، وهكذا انتشرت سيرة الأخوين بين الناس.
مرت السنوات والحال لا يتغير ... والمحبة بين الأخوين لا تقل أبداً، كان "أنوب" يشعر بحجم المجهود الذي يبذله أخيه "باتا" في المنزل وكذلك في الأرض والرعي ... تفكر "أنوب" في نفسه قائلاً:
- ربما ان تزوجت أنا، أرحت أخي الصغير من الأعمال داخل المنزل، ووجدنا من يهتم لأمر الطعام والشراب والملبس.
اتخذ "أنوب" قرار الزواج وتحدث مع أخيه الأصغر بشأن قراره، ففرح "باتا" بذلك وشجعه علي ذلك ... وبالفعل وجد "أنوب" فتاة جميلة كانت حديث أهل القرية، تقدم "أنوب" لوالد الفتاة التي كانت تسمي "ميريت" ذات الثمانية عشر عاماً لخطبتها من والدها، واتفق العريس وولي العروس علي هبة البكر 2 كما اتفقوا علي الأمتعة التي ستحضرها العروس معها وما سيحضره العريس أيضاً.
وبعد الاتفاق صنع "أنوب" حلقة البعث 3 من الذهب خصيصاً لكليهما ... ثم أقاموا الأفراح احتفالاً بتلك الخطبة.
فرح "باتا" لأخيه كما لو كان هو العريس وليس أخيه، كما أحضر لأخيه ملابس جديدة من صنع يديه، وذبح من أجله أفضل الأغنام والأبقار، كان يحتفل بنفسه في صورة أخيه، فالمحبة القائمة في قلبه له تصنع ذلك.
حضر الكاهن وبدأت مراسم الخطوبة، أشار الكاهن للجميع علامة الصمت، فنظر الجميع إليه في صمت، وحينها تحدث قائلاً:
- في هذه الليلة المباركة نحتفل بخطبة عزيزنا "أنوب" وابنتنا "ميريت" ... لقد اتبع "أنوب" كلام الحكيم "أني" 4 حين قال "يا بني، اتخذ لنفسك زوجة وأنت شاب كي تنجب لك طفلا، فإن أنجبته لك في شبابك، أمكنك تربيته حتى يصير رجلا" ... نعماً لك وبارك رع في حياتكم.
انهالت المباركات من الجميع في تلك اللحظة علي الخطيبين فكانت السعادة هي عنوان تلك الليلة.
مرت الأيام بعد ذلك هادئة علي نفس الوتيرة ... ازداد "أنوب" حباً وهياماً بخطيبته "ميريت" ... لكم اشتاق إلى وجود امرأة في حياته ... مرت الشهور وحان موعد الزواج، ظهرت العروس بثوب أنيق طويل من الكتان بشريط على الكتف، و تاج مرصع بالأحجار وحزام وأساور وعقود، وصدرية كانت عبارة عن قطعة كجعة من الحُلي ترتديها "ميريت" فوق الصدر، ورسم بالعين بالكحل البارز، زاد جمالها جمالاً، وعطر فواح ملأ شذاه الأجواء.
حرص "باتا" علي تزيين المكان بزهور الياسمين كما يليق بأخيه والعروس، فبدأ الزفاف عبر تلك الزينة بالموكب الخاص بالعروسين يتقدمهم الكاهن ومن خلفهم الأهل والأصدقاء.
وكما جرت العادة تمت كتابة عقد الزواج وتم تدوين تاريخه وطرفي الزواج وكافة البنود الأخرى كالهدايا وبنود المعيشة وحماية الأطفال 5
بعد كتابة العقد سلم الكاهن نسخة للعروسين، واحتفظ بنسختين أخريين له ولدار المحفوظات.
وقف الكاهن بعد ذلك متوجهاً بالحديث إلى "أنوب" مستعيناً بكلمات الحكماء القدماء قائلاً:
- 6 أحب شريكة حياتك، اعتن بها.. ترعى بيتك، أطعمها كما ينبغي، اكس ظهرها وعانقها، أفتح لها ذراعيك، وادعوها لإظهار حبك لها.. واشرح صدرها وادخل السعادة إلى قلبها بطول حياتها، فهي حقل طيب لسيدها وإياك أن تقسو عليها، فإن القسوة خراب للبيت الذي أسسته، فهو بيت حياتك لقد اخترتها أمام الإله.
فرح الجميع وأكلوا وشربوا سوياً احتفالاً بالعروسين، وانتقلت حلقة البعث من اليد اليمني إلى اليد اليسري، فكان ذلك علامة علي الرباط المقدس الذي يربط بينهما.
--------------
1 أنشودة خاصة بالإله رع
2 هبة البكر هي المهر في وقتنا الحالي
3 حلقة البعث قد تعني دبلة الخطوبة في وقتنا الحالي
4 عاش الحكيم آنى فى قصر أحد ملوك الأسرة الثامنة، وهو صاحب الحكم والمواعظ التى اشتهرت فى هذه الحقبة التاريخية والتى كتبها لابنه، وقال عنها الدكتور سليم حسن فى كتابه الأدب المصرى القديم، أنها تُعد من أحسن ما وصل إلينا من الأدب المصرى من النصائح والحِكم والتجارب والمُعاملات الإنسانية، من حيث الأخلاق والدين والسلوك فى الحياة الدنيا.
5 تضمنت عقود الزواج في العصر المصري القديم بنودا تصل أحيانا إلى نحو 20 بندا، تحدد شكل العلاقة بين الزوجين تفصيلا مثل: التاريخ، الإعلان (الإشهار)، وطرفي عقد الزواج، وهدية الزوج (المهر)، والمعيشة، والضمان، وحماية الأطفال، والقسم (التعهد)، ومتعلقات شاركت بها الزوجة في المنزل، والمتعلقات المشتركة بين الزوجين، وممتلكات من الوالدين من ميراث، والرهن، والتعويض في حالة الانفصال، والإقرار الختامي، وكاتب العقد، والشهود.
6 من أقوال الحكيم بتاح حتب.
يتبع قريبا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق