أعرفه من وقع خطواته ... يقترب في هدوء بصوت أقدامه المميزة
تك تك ... تك تك
لا يفتح الباب فقط، بل يفتح قلبي علي سعادة لا وصف لها.
ما أن أراه حتي أركض سريعاً إليه متهللة ... يضمني إليه في حنان ويقبلني،
ثم يضع طبق الطعام أمامي ويتحدث إلي.
بيسة ... هذا هو الاسم الذي أطلقه عليَّ صديقي، أنتظره حتى ينطقه فألبي
النداء، ما أن نجلس سوياً أجده لا ينقطع عن الحديث إلى ... علَّني لا أفهم شيئاً
من كلامه، ولكن يكفيني أن أنظر وجهه حينما يتحدث.
لست غبية بالتأكيد، ولكنني لست مثلكم، فأنتم تمشون على إثنين ... تأكلون
بإثنين، أما أنا فأمشي على أربع ولا أحتاج شيئاً سوي فمي كي أكل وأشرب، لا يوجد
لديكم هذا الكم من الأبيض - اللون الوحيد الذي أعرفه - على أجسادكم مثلما أنا، لدي أذنان أطول من أذانكم، وبالطبع
فأنتم تفوقنني طولاً فأنا أصل إلى منتصفكم بالكاد.
أنتم تتحدثون لغة لا أعرفها، بينما أتحدث أنا لغة لا تعرفونها. منذ ولدت
وجدت نفسي في تلك الغرفة، لا أعرف شيئاً عن العالم سواها، فهي بالنسبة لي كل حياتي
... لن أطيل عليكم فليست الغرفة سوي مكان صغير بأربعة جدران، على يساري أجد باب وعلى
يميني الحائط يتوسطه نافذة صغيرة أنظر منها إلي السماء من حين لأخر وأتنسم العليل
كلما أُتيح لي ذلك، أما عن الباب فهو مغلق دائماً يُفتح فقط حينما يحضر أصدقائي،
في منتصف الغرفة تجد كرسياً صغيراً وضعه صديقي كي يجلس عليه كلما حضر ... ألوان
الغرفة ... إممممم ... لا أدري فأنا لم أعرف الألوان بعد.
قد تظنون أنني سجينة في هذا المكان، ولكنني في الحقيقة لست كذلك، فإن حمزة
صديقي ...
نعم نسيت أن أقول لكم ... فهذا الشخص الذي أتحدث عنه اسمه حمزة، دائماً ما
أسمع أطفاله وزوجته ينادونه بهذا الاسم .... يا إلهي، كم أتمنى أن أنطق اسمه مرة
واحدة مثلما تستطيعون أنتم أن تنطقوه، ولكنني لا أستطيع.
لنرجع مرة أخري إلى موضوعنا الأهم، لما لا أعتبر نفسي سجينة الغرفة؟
الأمر غاية في البساطة، فلدي من الأحباء ما يجعلني ممتنة ... في الصباح
وعند شروق الشمس تحضر الزوجة ... يدعوها حمزة باسم فوزية أما الأولاد فيطلقون
عليها اسم ماما، فهي أقل قامة من حمزة لها شعر طويل، أحبها كثيراً مثلما تحبني. هذا
هو كل ما أستطيع وصفه.
تدخل غرفتي فتقوم بتنظيف الغرفة من الفوضى التي أحدثتها، تحضر إليَّ الطعام
والشراب في أطباق محل الأطباق القديمة، أكل طعامي وأنتظر حتي يدخل الأولاد، حيث يحيطون
بي بعدها ... أطولهم قامة يدعونه صابر والمتوسط فرج والقصير بينهم ينادونه باسم
كوكو، يحضر الثلاثة كل صباح إلي غرفتي ونلعب سوياً، نركض ونركض ثم نركض ... نستمر
علي هذا الحال حتي ينهكنا الجري، نلهث، ولكننا لا نتوقف ... قد يمر أحدهم من فوق
رأسي ... وقد نجري وراء بعضنا البعض، وفي بعض الأحيان يحضرون الكرة، يرميها صابر
في اتجاه كوكو أو فرج فأحاول أنا أن أبعدها، قد أنجح مرة وقد أفشل في الأخرى، وإن
نجحت فلا أفعل شيئاً إلا تحريك الكرة برأسي بصعوبة، فيلتقطها مني أحدهم ونعيد الكَرَّة
مرة تلو الأخرى، وهكذا نستمر في المرح طويلاً إلي أن تحضر فوزية.
هنا ينتهي وقت اللعب مع الأطفال الثلاثة، فما أن تدخل فوزية إلا وتأمُر
الأطفال بالخروج، وهنا تنظر إلى مبتسمة ... تربت على رأسي في حنو ... تراقب مقدار
الطعام والماء الموضوع أمامي وتزيده إن نقص ... وللمرة الثانية تقوم بتنظيف المكان،
فيصبح المكان رائعاً دائماً.
في بعض الأيام أجدها تقوم بغسلي بماء دافئ، كم يجعلني ذلك أشعر بالانتعاش.
أليس ذلك رائعاً أن تجد أحدهم يقوم برعايتك؟! نعم لهو شيء عظيم، فهي تقوم بذلك بلا
ضجر، وما أن تنتهي من ذلك حتى تغادر الغرفة، وأظل وحيدة لبعض الوقت، أستغل ذلك في
الأكل أو النوم والاسترخاء، وبعدها أنتظر حمزة ... يمر الوقت بطيئاً في الانتظار
ولكنه لم يخلف موعداً يوماً ... فها أنا أبدأ الفترة الأخيرة من نشاطي اليومي،
الفترة المحببة.
حمزة هو الشخص الذي يفيض حناناً تجاهي أكثر من جميعهم، يجلس معي طويلا كل
يوم، فكما أخبرتكم سابقاً فهو يدخل غرفتي سعيداً، أركض إليه فيقوم بضمي إليه ويقوم
بتقبيل رأسي ومن ثم يقوم باستكمال ما تفعله فوزية فهو يداعبني ويقوم بإضافة الطعام
والشراب لي، يجلس أمامي يراقبني وفي أوقات أخري أذهب إليه وأضع رأسي على قدميه،
أحب ذلك فهو يقوم بالربت على ظهري، فأستغرق مسترخية ويقوم هو بالحديث إليَّ طويلاً،
كل ما أفهمه هو مدي محبته لي، يكفيني فقط أن أنظر إلى وجهه فأعرف ذلك.
أفهمتم الأن لماذا لا أظن نفسي حبيسة؟ أن أكون مع من أحبهم في مكان وإن كان
غرفة صغيرة، لهو أفضل لديَّ من أن أُطلق حرة في كل العالم بلا أحباء.
هكذا يمر يومي وينتهي فأذهب بعدها لأنام، لا أمِل من ذلك وإن تكرر كل يوم.
ها يبدأ يوماً جديداً، تدخل فوزية وتكرر ما تقوم به كل صباح، يدخل بعدها
الأولاد ونلعب سوياً وينتهي وقت اللعب سريعاً كما لو لم نلعب، وتحضر فوزية مرة
أخري ويخرج الأولاد وتنظف الغرفة.
وأظل أنتظر حمزة
تك تك ... تك تك
ها هو ذا قد وصل أخيراً، ما أن فتح الباب حتى ركضت إليه، ولكنني توقفت فجأة
قبل أن أصل إليه، حمزة لم يكن كما أعرفه فلديه وجه مختلف هذه المرة، أين ابتسامتك؟
بل وأيضاً أين طعامي؟ ... هل نسيته؟
أه لقد أحضرت شيئاً أخر معك ربما هو شيئاً جديداً لي، تمسكه من طرفه الأول ويتلألأ
بقيته مع ضوء الغرفة، وله طرف أخر مدبب في نهايته.
ركضت إليه قاطعة المسافة المتبقية، وانتظرت ربما يعطيني هديتي ولكنه لم
يفعل ... وبدلاً عن ذلك فعل ما يفعله كل يوم، فقد ضمني إليه بقوة وقبلني ... ربت على
رأسي ومشينا سوياً بضعة خطوات إلى أن وصلنا إلى مقعده الموجود بمنتصف الغرفة، جلس
كعادته وأخذ ينظر إليَّ طويلا، ربما هي المرة الأولي التي أراه ينظر إليَّ بهذا
الشكل، كما لو أنه يخفي شيئاً ... ببطء ذهبت إليه ووضعت رأسي على قدميه بينما جسدي
يتمدد أمامه، ألن تعطيني ما قد أحضرته لي؟ فمازال في يدك ولم تتركه لحظة واحدة منذ
دخولك.
ربما تريدنا أولاً أنا نمضي وقتاً أطول معاً، ربما ترديني أن أنام ...
حسناً ... ها أنا أستسلم، فالشعور بالاسترخاء لهو من أفضل الأشياء المحببة إليَّ.
لماذا تضغط رأسي بكل تلك القوة الأن؟ إنك تؤلمني.
أشعر كما لو أن شيئاً ما قد انغرس في رقبتي ... أااااه إنه لشعور مؤلم ...
دع رأسي وشأنها يا حمزة فأنا لا أشعر بأنني علي خير حال، لماذا ما تزال تمسك برأسي
بتلك القوة؟
أااااااه ... لم أختبر طيلة حياتي كم هذا الألم مثلما أشعر به الأن، فرأسي
تثقل وينغرس شيئاً فيها أكثر وأكثر، جسدي ينتفض، وأشعر بالماء الدافئ يحيط بي من
كل مكان، لربما أفرطت في اللعب اليوم، فأنا لا أستطيع الحركة الأن ... أشعر بأنني
أختنق ... وينبغي على أن أستريح، ربما على أن أنام.
ها أنا أستسلم ... ها أنا أذهب بعيداً ... رويداً ... رويداً.
حمزة .... لا أريد أن أنام قبل أن تقبلني مرة أخيرة ... لا أريد أنا أنام
قبل أن أسمعك تنادي اسمي.
بيسة
بيتر الياس
15 فبراير 2019