الفصل الرابع
دار ذلك
الحوار في المنزل بين "أنوب" و "ميريت"، ولكن البقرة
"أيا" كانت قد سمعت تفاصيل ذلك الحوار، لم تستطع فعل شيء في المرة
السابقة. ساءت الأمور قبل ذلك ووصلت إلى ما هي عليه الآن.
قالت، لا
يمكنني الانتظار أكثر من ذلك، سوف أذهب إليه لأحذره، لابد لي أن أسبق
"أنوب" قبل أن يجد تلك الفأس.
هكذا
قالت "أيا" للأبقار حولها، خرجت البقرة مسرعة، محاولة قطع أكبر مسافة
ممكنة لها في أقل وقت ممكن، يعيقها وزنها، فهي لم تكن رياضية يوماً من الأيام، أما
اليوم فلابد لها أن تكون.
في الوقت
الذي خرجت فيه البقرة، "أيا" كان "أنوب" مازال يبحث عن الفأس
في كل مكان بالمنزل، لقد توقف عقله عن العمل، لم يعد يفكر إلا في قتل أخيه.
-
أين تلك الفأس اللعينة، ان لم أجدها فسأقتله
بيدي.
هكذا
دمدم "أنوب" وهو مستمر في البحث عن الفأس.
كانت
البقرة "أيا" قد قطعت مسافة لا بأس بها، واقتربت بعد زمن من مكان
"باتا"، وهو نفس الوقت الذي وجد فيه "أنوب" ضالته، فما كان
منه إلا ان استل تلك الفأس، وخرج مسرعاً لملاقاة "باتا".
وصلت
البقرة "أيا" إلى مكان "باتا" لاهثة، لا تقوي على الكلام، رآها
"باتا" فذهب إليها مسرعاً، لم يفهم لما حضرت إليه على هذا النحو، وفي ذلك
الوقت من النهار، فلم تفعل ذلك من قبل قط، بل كانت تخرج معه إلى هذا المكان عندما
كان يخبرها بأنه يريد أن يتحدث إليها، فعرفت حينها أن هذا المكان هو الأرض التي
يزرعها الأخوين، وتوفر لهما الطعام، أحبت هذا المكان سابقاً، فهو مصدر غذائهم، أما
الآن فهي تخاف أن يكون هو نهاية "باتا"، لذلك استجمعت "أيا"
أنفاسها وقالت بصوت متقطع:
-
اهـ
... رر ... ب
حاولت
التقاط أنفاسها مرة أخري وأعادت قائلة:
-
اهر .. رب ... اهرب يا "باتا"
أدرك
"باتا" أن كارثة على وشك الحدوث، ولكنه لم يغادر قبل أن يفهم ما يحدث
وهو ما دعاه لسؤالها:
-
ماذا حدث؟
أجابته
"أيا" سريعاً:
-
لا وقت لذلك، لقد افترت "ميريت" عليك،
وقالت لأخيك أنك قمت بالاعتداء عليها.
في تلك
اللحظة ظهر "أنوب" من بعيد، فلمحه "باتا" وهو يجري وبيده
الفأس ... أدرك الآن ما ينويه أخوه، بلع "باتا" مرارته، وأدرك أنه لا
مفر من الهروب، جري سريعاً محاولاً الاختفاء ... ولكن الأوان قد فات؛ أخوه الآن على
مرمى البصر، ويراه جلياً كما يراه هو، لم يعرف ماذا ينبغي عليه أن يفعل؟!، فركض. ركض
الأخوان وراء بعضهما البعض.
كان
"باتا" يجري وهو يبكي ينظر إلى رع في عليائه ويسأله:
-
لماذا؟ ... لماذا يا رع؟ أنا لم أرتكب خطيئة
... لم أسرق ... لم أقتل ... لم أفعل الشر، فلماذا؟ ... لماذا يا رع؟ أنت فاحص
القلوب، فأنا لم أشتهي زوجة أخي، لم أدنس نفسي. لم أملأ قلبي حقدًا، لم أكن سببًا
في دموع إنسان، حتى أنني لم أتسبب في شقاء حيوان، ولم أُعذب نباتًا بأن نسيت أن
أسقه ماء، أطعمت الجائع، رويت العطشان، كسوت العريان، كنت عينًا للأعمى، ويدًا
للمشلول، ورجلًا للكسيح، ملأت قلبي [1]بماعت.
ظل
"باتا" يبكي بمرارة. وفجأة توقف عن الركض، نظر إلى الأعلى إلى مقر رع
إله الشمس، ثم نظر خلفه، إلى أخيه "أنوب" الذي كان يراه من بعيد مقترباً
-
لن أفر، فموتي أفضل من أن أعيش هارباً بلا ذنب.
ترقق قلب
الإله رع من السماء وهو ينظر إلى "باتا"، وبعد أن أصبح "أنوب"
أخوه على بٌعد خمسين خطوة منه ... صنع الإله بحيرة بين الأخوين مملوءة بالتماسيح
... فزع "أنوب" عند رؤيته ما حدث، فتوقف في الحال ... تلعثم ولم يستطع
الكلام، أما أخيه "باتا"، أخوه المظلوم فوقف من الناحية الأخرى، نظر في
عيني أخيه ومازال يبكي:
-
أنا لم أفعل شيء ... لم أفعل.
أجابه
"أنوب" قائلاً وقد هدأ غضبه قليلاً:
-
كيف نسيت إني ربيتك يا "باتا"، وأني
كنت لك أباً أفضلك على نفسي، وأقدمك على زوجتي؟
فأجابه
"باتا"، محاولا نفي التهمة:
-
كلا ... كلا يا أخي أحلف لك بحياة رع العظيم،
أني ما نسيت فضلك ولا تغير حبي لك.
لم يصدق "أنوب"
كلام أخيه فخاطبه غاضباً، قائلاً له بإصرار:
-
إن الحديث الذي جرى بينك وبين زوجتي اليوم حديث
فظيع، تريد قتلي بالسم لتتزوجها بعدي، لقد كذبت على، وحينما سألتك عن جروحك، أجبتني
بأنك قد تعثرت؛ فصدقتك ولما عدت الى البيت رأيت دمك على الأرض، وقطع ثيابك بيد
زوجتي، فعرفت أنك كاذب مخادع، وأنها صادقة!!!
هز
"باتا" رأسه نافياً وهو يقول:
-
أقسم لك يا أخي بأنه لم يجرِ بيني وبينها هذا
الحديث، وما قدمتُ لها سماً كي تدسه لك، إنها تكرهني وكانت كل يوم تحدثك بأحاديث
كاذبة، حتى تبعدني، وتبغّض قلبك عليَّ لتطردني من المنزل، وتعيش معك وحيدة، وقد
أخبرتني البقرة بكل ما كانت تحدثك به، ولم تصدقها أبداً فلماذا صدقتها اليوم؟
وحياة رع العظيم رب الأرباب ما كذبت عليك، إلا لأني لا أريد أن أغضبك على زوجتك،
وأني لا أحب أن أنغص عيشك وحياتك ... فلقد تحملت من زوجتك كثيراً من المتاعب ولم
أخبرك لتعيش سعيداً معها، أما الآن، فلم يعد بمقدوري أن أعيش معكما. فسلامٌ عليك. سأبحث
لنفسي عن بلاد أخري أعيش فيها.
نظر
"باتا" إلى أخيه "أنوب" فشعر بأنه لم يصدقه بعد، فقال لأخيه:
-
إن لم تكن تصدقني ... فالموت أكثر هواناً من أن
أعيش وأنت تكرهني.
أخرج
"باتا" سكيناً من ملابسه وأشار بها إلى أخيه "أنوب" وهو يقول:
-
سأقطع [2]عضوي
أمامك ... فإن كنت بريئاً أنقذتني الآلهة ... وإن كنت مذنباً فلأموت بغير أسف.
دق قلب
"أنوب" في تلك اللحظة واضطرب بعنف، وهو يري أخاه يخرج عضوه ويقترب منه
بالسكين فيقطعه أمامه ويرميه في الماء ... واذا بـ "باتا" في اللحظة
التالية يسقط أرضاً ... بكي "أنوب" بشدة لمشاهدته أخيه المحبوب يموت
أمامه بهذه الفظاعة، ولكن حزنه لم يدم طويلاً؛ فرأي نور الإله رع يسقط من السماء،
ويضع شعاعه مكان الجرح؛ ليملأ عضوًا آخر عوضًا عن العضو المقطوع، كانت تلك علامة واضحة
أكبر من أي دسيسة علي براءة أخيه، اقتنع "أنوب" ببراءة أخيه، وتذكر وصية
والده التي كان قد نسيها (واعلم أنك سوف تسمع وشاية ضده
من أقرب الناس إليك، فلا تصدقها لأنه سيعيش مخلصاً لك وسيكون اخاك الوفي وخادمك
الأمين المطيع ... تذكر ذلك ولا تنسه أبداً)
بكي "أنوب" حزناً على ما كادت
يده أن تقترفه تجاه أخيه المحبوب، فصار يناديه باكياً:
-
عد يا "باتا"، عد الى قريتنا لنعيش
معاً في سلام كما كنا.
فأجابه
"باتا":
-
لا تأسف، لا تأسف ولا تحزن يا أخي، لقد عزمت
الرحيل الى [3]وادي
الأرز وهناك سأعيش وأحيا.
شعر
"أنوب" بأن أخيه لن ينزل عن قراره، فسأله قائلاً:
-قبل أن
تذهب ... فلتخبرني بما حدث ... فأنت لن يرضيك أن يعيش أخيك مخدوعاً مع امرأة
كاذبة.
نظر "باتا"
إليه في أسي وحكي له عما قامت به "ميريت" الخبيثة بوشايتها ومحاولاتها
استمالته، وبعد أن حكي له ذلك، قام الإله رع بإسقاط شعاعه مرة أخري في قلب
"باتا" فتحدث "باتا" إلى أخيه مسوقاً من روح رع:
-
سأرحل؛ ولكني أطلب منك طلباً واحداً، هو أن
تبحث عني في وادي الأرز. سوف أموت، وسوف يوضع قلبي في زهرة في أعلى أشجار الأرز
فإذا وقع على الأرض مت إلى الأبد. ستعرف انت هذا عندما ترى كأس الشراب في يدك تفور
وتغلي فجأة فتنسكب، فتكون تلك علامة لك، فعليك حينئذ أن تبحث عن قلبي حتى تعثر
عليه أعلي الشجرة، وقبل أن يقع على الأرض، يجب أن تضعه في ماء مثلج، وإذا فعلت هذا
عدت الى الحياة مرة أخرى.
نظر
"أنوب" بتعجب إلى أخيه، فأردف "باتا" قائلاً:
-
لا تخف ... فلن يحدث لي مكروه، إلا لو سقط قلبي
من تلك الشجرة.
قال ذلك
فساد الصمت لثوان ... فأكمل "باتا":